الرباط ـ ‘القدس العربي’: محمد كريش- مواليد فاس/ المغرب عام 1957 واحد من أبرز المصورين الصباغين المغاربة المعاصرين. درّس الفنون التشكيلية وخاض تجربة التأطير التربوي في نفس التخصص، قبل أن يتفرّغ راهنا لممارسة الفن. أقام الكثير من المعارض التشكيلية انطلقت رسميا عام 1976، أبرزها بفاس وطنجة والدار البيضاء وكندا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية. بمسقط رأسه، جالست الفنان كريش ودار بيننا الحوار التالي: كيف تتذكر بداية الرحلة مع التصوير التشخيصي؟ في الواقع، بدأت فنانا تجريديا مهتما بتركيب المواد ومزج الأصباغ ودراسة تحولاتها البصرية فوق السند. وفي وقت مّا.. في لحظة مّا اكتشفت سحر اللون، لا سيما اللون الوصفي الذي يظهر الأشياء في حدود تفاصيلها الصغيرة، فشرعت في استعماله خلال بعض التمارين التشخيصية التي كانت تتسلل إلى مشاريعي الصباغية آنذاك. وبحكم المراكمة وتكثيف العمل، أدركت أهمية الأسلوب التشخيصي وصار اختيارا جماليا شخصيا جعلني أشعر بذاتي كفنان وكمصور، بل منحني إحساسا مضافا أتأثر عن طريقه بكل الأشياء التي تحيط بي.. لذلك تمتح مواضيع لوحاتك من محيطك؟ بالطبع نعم، فكل المواضيع التي أرسمها وألونها هي قريبة مني ومن رحم تربتي وواقعي. فأنا أمارس تصويرا تسجيليا وتوثيقيا في آن. فلوحاتي واقعية موسومة بمسحة انطباعية تعالج ، بصيغ تلوينية جديدة، سؤال الذاكرة والتاريخ. من ثم انسحبتُ إلى رسم الأماكن والفضاءات الشعبية والتراثية المنقرضة التي لم تعد موجودة سوى في أذهان ووجدان الناس المشترك، أتخيّلها كما لو كانت كائنة لأنفخ فيها الحياة من جديد عبر الرسم والصباغة والتلوين..رسمت المعمار التقليدي والأسواق والحارات الشعبية والمواسم والأضرحة ومشاهد الاحتفال الديني والاجتماعي وحياة الناس وغير ذلك من المناظر والمشاهد المغربية الحية التي أعتبر تصويرها استعادة بصرية لحياة انقرضت بفعل الإهمال والنسيان.. مع وجود ملاحظة أساسية، هي استعمالك لألوان صافية..ما السر في ذاك؟ ليس في الأمر سرا..كل ما في ذلك، أن صفاء الألوان في لوحاتي يعود إلى سببين متلازمين، أولهما ذاتي يرتبط بطريقة تحضير اللون، بحيث أنني لا أستعمل الصباغة مباشرة من الأنبوب، بل كثيرا ما أتدخل في تكوينها الكيميائي بإضافة زيوت خاصة ومواد تقليدية مطبوخة على النار أقوم بمزجها لاحقا مع دقيق الصباغة في سياق تطويع المادة، وثانيهما موضوعي تمليه شروط تقنية وبصرية تتصل بالنور والشمس وزمن الصباغة. وفي كل الحالات، فإن صفاء اللون في لوحاتي يعدّ مكونا جماليا أساسيا تبرز على ضوئه العناصر والنماذج المرسومة..فضلا عن النسب والعمق والأبعاد والمنظور الأوقليدي الذي ينهض عليه التصوير الواقعي القديم منه والجديد.. ألا تعتبر تجربتك الصباغية مغامرة في ظل حديث شائع حول تجاوز التصوير التشخيصي وتنامي أشكال تعبيرية ما بعد حداثية تتجاوز حتى التجريد بمعناه الجامد؟ التصوير التشخيصي كان دائما قويا ولا يزال يحتفظ بقوته وحيويته حتى في ظل العديد من الظروف التي حاولت كثيرا التقليل من قيمته الإبداعية، ولا سيما شيوع التصوير الفولكلوري واستنساخ وتناسل اللوحة الاستشراقية بشكل خطير..فالتصوير التشخيصي عندما يصاغ بأسلوب شخصي مستقل ويعبّر عن جهد في البحث وتشكيل المادة المجسِّدة وتجريبها يكون أصيليا ولا علاقة له بالنماذج المسكوكة والمتكررة. أضف إلى ذلك، أن التطور الإبداعي الحديث (وما بعده) دفع العديد من الفنانين والرسامين العالميين إلى العودة إلى التشخيصية، كما أن المعاهد الدولية المختصة في الفنون الجميلة تولي اهتماما بالغا للتكوين الأكاديمي الذي يشكل الرسم والتصوير الواقعي بؤرته ومركز دائرته.. ارتباطا بالتجربة البيداغوجية الهامة التي عشتها مدرسا ومؤطرا تربويا في شعبة الفنون التشكيلية، كيف تقرأ الدرس الجمالي بالمدرسة المغربية؟ للأسف العميق، لا يزال الدرس الجمالي بمدارسنا الابتدائية والثانوية متذبذبا ومرتبكا ويعود السبب في ذلك إلى الهوة الواسعة التي تطبع مراحل التعليم الفني، وأقصد بذلك غياب التدرج والتكامل بين المستويات التعليمية. أضف إلى ذلك، وجود غموض كبير يرافق صياغة المفاهيم ويزيد من الخلط الكبير الحاصل على مستوى لغات التلقين والفوضى التي تعتري إنجاز الكتاب المدرسي (بالابتدائي) الذي لا يلائم بالمرة الخصوصيات الاجتماعية والثقافية والبيئية للمتعلمين..هذا دون الحديث عن الافتقار إلى شعب تخصصية وتطبيقية على مستوى الثانوي وغياب الدرس الجمالي بالتعليم العالي.. والمشهد التشكيلي المغربي الراهن، كيف تتابعه؟ بكثير من الحسرة أتابع المشهد التشكيلي بالمغرب ويبدو لي كثيرا أنه يشبه ‘الجوطية’. ففننا التشكيلي يفتقر إلى مراجع بصرية عميقة العلاقة بأصولنا وجذورنا الثقافية. وبالمقابل، فهو محكوم بالكثير من الأدوات والقيم الإستتيقية والتقنيات المستوردة من ثقافة الأغيار، طبعا مع وجود تجارب استثنائية حرة لكنها قليلة أسست لخطاب تشكيلي وطني مخصوص بالأصالة والتفرد.فمشكلة الإبداع التشكيلي بالمغرب، تكمن في انتشار ظاهرة السمسرة في الفن، الأمر الذي غلَّبَ الفن الرديء على الفن الجاد المبني على البحث والتجريب. فهذا النشاط السلبي تنعشه بعض الأقلام المأجورة ووجود مؤسسات مختصة في المزاد العلني، إلى جانب أروقة خاصة محترفة في صنع ‘فنانين من ورق’ عادة ما تقوم بترويج وتسليع أعمالهم بكيفية مذهلة لغايات تجارية صرفة. هل أنت مع إحداث متحف وطني للفنون المعاصرة؟ أريد أن أوضح مسألة مهمة ذات العلاقة، هي أن فكرة إحداث متحف وطني للفنون التشكيلية المعاصرة بالمغرب ليست وليدة اللحظة، فهذا الصرح وهذا المشروع الثقافي شكل مطلبا وطنيا منذ الستينات، وربما قبل ذلك، فكانت هناك أصوات وبيانات لم يلتفت إليها أحد ظلت تنادي بخلق هذا المتحف وإحداثه. تخيّل لو أن الأمر حسم منذ ذلك الوقت لكنا قد ربحنا مؤسسة علمية لا تخفى قيمتها التثقيفية والتربوية على أحد. والغريب في الأمر أننا لحد الساعة لا نتوفر على متحف وطني للفنون التشكيلية المعاصرة. صحيح أنه كانت هناك مبادرة انطلقت بعملية جمع واقتناء الأعمال والقطع الفنية في انتظار تشييد المؤسسة، غير أن الطريقة والأسلوب الذي نهجه المسؤولون كان مزاجيا ولم يكن معقلنا وترتبت عنه مشاكل عديدة أقبرت هذا المشروع/ الحلم ورمت به إلى دائرة النسيان. أمنيتك كفنان؟ أن يتم الاعتراف بالإبداع التشكيلي داخل نسيج الثقافة الوطنية، وأن يعي الفنان المغربي دوره كمبدع قادر على المشاركة والمساهمة الفعلية والفعالة في برامج التنمية المجتمعية ومساعدته ماديا ولوجيستيا للعب هذا الدور.التقاه: ابراهيم الحَيْسن
Mohamed KRICHE
البحثا في الذاكرة الفينة، وتوثيقا للمعمار المغربي القديم، وتحيينا للقصبات
Huile sur toile